كيف خسر العراق أكثر من 179 مليار دولار

التلاعب في حجم الاستيراد

خلال مشاركته في أعمال مؤتمر إصلاح النظام الضريبي في العراق كشف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن “إجمالي المستوردات لعام 2022 بحسب بيانات مركز التجارة الدولي بلغت 42 مليار دولار. فيما تؤشر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء إلى أنها بلغت 16 مليار دولار ما يعني أن 26 مليار دولارلم تخضع للرسوم الضريبية و الجمركية”.
و أوضح السوداني أن “جزءاً كبير من المشكلة يكمن في التهرب و التحايل و الالتفاف من قبل التجار و رجال الأعمال على النظام الضريبي بحيث أن التاجر يذهب إلى السوق الموازي و يترك السعر الرسمي و المنصة الإلكترونية في البنك المركزي لتجنب الذهاب إلى الضريبة أو القيام بالتحويلات المالية من خلال المصارف بشكل رسمي و الامتثال للمعايير الدولية في التحويلات المالية”.
لكن من خلال التدقيق في حجم الاستيراد للفترة بين 2012 – 2022 تبين وجود اختلافات كبيرة بين بيانات البنك المركزي العراقي و الجهاز المركزي للإحصاء تتكرر في كل عام و بفوارق مليارية ضخمة تصل قيمتها إلى 179.25 مليار دولار.

و يطرح هذا الأمر العديد من التساؤلات حول الحجم الحقيقي للاستيراد في العراق و الذي يبيع البنك المركزي بموجبه الدولار. فقد ذكر السوداني خلال لقاء صحفي بتاريخ 28 يناير 2023 أن الحديث عن وجود فواتير مزورة هو أمر واقع مستغرباً وصول حجم الاستيرادات اليومية إلى 300 مليون دولار.
و بين السوداني أن ذلك يفسر تهريب الدولار إلى الخارج مشيراً إلى أنه رغم تقليص البنك المركزي لمبيعاته من الدولار إلى 30 مليون دولار فإن الحياة لم تتوقف و لم تفقد السلع من الأسواق. و أعطى السوداني مثالاً عن المبالغة في أحجام الاستيراد مبيناً أن كميات الحديد المسجلة في فواتير الاستيراد سابقاً كانت تكفي لتغطية كافة أرجاء العراق.

حقيقة التهرب الضريبي

و يؤكد هذا ما أشارت إليه تقارير الخزانة الأمريكية عن نشاط غير قانوني لبعض المصارف العراقية في حصولها على الدولار و استخدامه في عمليات غسيل الأموال.
فقد منعت الخزانة الامريكية 18 مصرفاً من تداول الدولار و فرضت معايير دقيقة على الاستيرادات من خلال ما يعرف بمنصة الامتثال التي تدقق المستفيد النهائي من السلع المستوردة و حقيقة الشركات التي تقوم بعملية الاستيراد.
و بمجرد التدقيق في فواتير الاستيراد تم رفض أكثر من تسعين بالمائة من الفواتير التي تبين أنها غير صحيحة أو غير مطابقة لمعايير الامتثال. لذا فقد ساهم هذا في ارتفاع قيمة الدولار أمام الدينار حتى وصل إلى مستويات تجاوزت 1650 دينار لكل دولار.
و يعزا ذلك لعمليات سحب الدولار من السوق العراقية و عمليات تهريبه نقداً أو عبر بطاقات الدفع الإلكترونية لتحقيق أرباح من الفرق بين السعر الرسمي البالغ 1320 دينار لكل دولار و السعر غير الرسمي في السوق الموازية.
لكن رئيس الوزراء السوداني رجح في كلمته الأخيرة أن يكون السبب في الفرق بين بيانات مركز التجارة الدولي و الجهاز المركزي للإحصاء ناجماً عن عمليات التهرب الضريبي للتجار و رجال الأعمال.
و قد يكون في هذا الأمر جانب من الصحة كون أن جزءاً كبيراً من التجار يذهب إلى دور الصرافة للحصول على الدولار تجنباً لإجراءات الامتثال في المنصة . إلا أن متابعة أرقام الاستيراد للفترة بين 2012-2022 أظهرت أن الفارق في البيانات ليس بالأمر الجديد و هو موجود قبل تطبيق معايير الامتثال.

إضافة لذلك فإن ارتفاع أرقام الاستيراد لمستويات قياسية لا تتناسب و عدد السكان أو الطلب المحلي يعطي صورة واضحة عن حجم التزوير و التلاعب في فواتير الاستيراد. ففي عام 2013 كان عدد سكان العراق 33 مليون نسمة في حين كانت أرقام الاستيراد 63.32 مليار دولار بحسب بيانات البنك المركزي لكن هذه الأرقام كانت أقل بـ 29.94 مليار دولار إذا ما قورنت بأرقام الجهاز المركزي للإحصاء و التي كانت 33.38 مليار دولار.
كما أن تلك الأرقام غير منطقية إذا ما قورنت بما هي عليه اليوم بعد قرابة العشرة أعوام حيث ارتفع عدد السكان إلى 42 مليون نسمة في العام الماضي 2022 مع وصول أراقام الاستيراد إلى 42 مليار دولار بحسب بيانات مركز التجارة الدولي و أقل من ذلك بكثير بحسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء حيث وصلت إلى 16 مليار دولار.

عصابات منظمة لسرقة الاقتصاد العراقي

و يطرح حديث السيد السوداني عن التهرب الضريبي العديد من التساؤلات حول النظام الضريبي في العراق خصوصاً و أنه يأتي بعد ما يعرف بـ “سرقة القرن” التي أدت للكشف عن سرقة 2.5 مليار دولار من أموال الأمانات الضريبية و التي كشفت عن وجود شبكة واسعة من المصارف و السياسيين و المتلاعبين في الاقتصاد العراقي. فالأموال التي تحدث عنها السوداني في التهرب الضريبي تبلغ 26 مليار دولار و هي تفوق أموال سرقة القرن بـ 10 أضعاف و هي تعادل 17% من موازنة العام 2023.
و مع صعوبة خروج الدولار من العراق و القيود الكبيرة التي تفرضها الخزانة الأمريكية على التحويلات الخارجية فإن جزءاً كبيراً من هذه الأموال قد تحول إلى عمليات غسيل أموال في الاقتصاد العراقي. و لعل هذا ما يفسر الزيادة الكبيرة في أعداد المولات التجارية و المطاعم و العقارات الباهظة الثمن و التي ملأت العاصمة بغداد دون أن تعود على الاقتصاد العراقي بأية مردودات انتاجية على صعيد القطاعات المهمة كالزراعة و الصناعة.
و يعتبر هذا الأمر بمثابة الكارثة على الاقتصاد العراقي فالتهرب الضريبي بهذا الحجم يشير لوجود مافيات كبيرة و شبكات مختصة تعمل في الجهازين المصرفي و الضريبي و تقوم بالتستر على العديد من التجار و الشركات و لها علاقات واسعة مع العديد من السياسيين و الجماعات المسلحة التي تسهل عملها توفر لها الحماية.
و في حال العراق الذي يحاول السيطرة على الدولار و منع انخفاض الدينار فإن استرجاع تلك المبالغ سيساهم بشكل كبير في تحسين قيمة عملته الوطنية وسيمنع لمزيد من حالات التهرب الضريبي خاصة و أنها تتكرر لأكثر من عقد من الزمن و بمبالغ هائلة تشكل موازنة تفوق بحجمها أكبر الموازنات في المنطقة.
التعاليق: 0

لن يتم نشر بريدك الالكتروني, الحقول المشار اليها بـ * مطلوبة.