هل تستثمر فرنسا خروج قوات التحالف من العراق؟

الوجه الجديد لفرنسا

بعد تراجع نفوذها السياسي و العسكري في القارة الأفريقية تحاول فرنسا تعزيز تواجدها في الشرق الأوسط و تحديداً في العراق. ففي الوقت الذي دعا فيه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى جدولة انسحابها تبحث باريس عن سبل ترسيخ علاقاتها مع بغداد.
و تحاول فرنسا أن تتجنب الاخطاء التي ارتكبتها في أفريقيا حينما تدخلت بشكل كبير في الشؤون السياسية و الاقتصادية لتلك الدول دون علاقات شراكة حقيقية مبنية على التوازن و المساواة.
و من خلال تتبع تحركات الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون في الشرق الأوسط و تعامله مع الحرب في غزة يلاحظ ثمة تغير واضح في الأسلوب يختلف عن تعامل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الأحداث.
ففي السابع من أكتوبر دعم ماكرون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها حيث زار تل أبيب و طالب بتشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس. لكنه بعد ذلك طالب بهدنة إنسانية مبيناً أن سياسة الحصار و القصف العشوائي مع القيام بعملية برية لن يوفر الحماية للمدنيين.
هذا التغير في الموقف الفرنسي يعزا إلى ردود افعال العديد من دول المنطقة التي شعرت فيه انحيازاً واضحاً لتل أبيب. فقد أدى هذا الموقف إلى إعلان العراق عن تأجيل مؤتمر بغداد بنسخته الثالثة حيث أنه كان من المقرر أن تنطلق أعماله في الثلاثين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي.
هذا المؤتمر الذي نجحت فيه باريس بجمع دول المنطقة كالعراق و الأردن و مصر و دول الخليج العربي و إيران و تركيا بهدف إنعاش العراق اقتصادياً ، تم تأجيله من قبل العراق إلى أجل غير مسمى.  الرئيس ماكرون من جانبه حاول في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني شرح الموقف الفرنسي و عدم ممارسة أية معايير مزدوجة مشيراً إلى تأييد باريس لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.

تعزيز الشراكة الفرنسية مع العراق

و يحاول ماكرون إيجاد حالة من التوازن في سياسته في الشرق الأوسط خصوصاً بعد انحسار الدور الفرنسي في المنطقة. و لتحقيق ذلك تستخدم فرنسا أدواتها السياسية و العسكرية و الاقتصادية بالإضافة لدورها في المجتمعات و الثقافة العربية.
و يبدو أن فرنسا قد وجدت في العراق مؤخراً بوابة عريضة للدخول مجدداً إلى الشرق الأوسط و تثبيت نفوذها المنحسر فيه. فقد شهد العام الماضي 2023 عدة زيارات متبادلة أسفرت عن اتفاقيات مهمة كان أولها الاتفاقية الاستراتيجية لتعزيز التعاون بين البلدين في مجالات الأمن و الطاقة و مكافحة الفساد و الثقافة.
ففي مجال الأمن أعرب الرئيس الفرنسي ماكرون عن وقوف بلاده إلى جانب العراق في محاربة تنظيم “داعش”  الإرهابي ، مبدياً استعداد بلاده لتزويد بغداد بمنظومة دفاع جوي متطورة. كما يعمل قرابة 600 جندي فرنسي على تدريب القوات العراقية و تقديم الاستشارات في مجال محاربة الإرهاب حيث أبدت فرنسا استعدادها لإنشاء قوات عراقية صحراوية مستفيدة من خبرات قواتها التي قاتلت في أفريقيا خلال السنوات السابقة.
أما في مجال الطاقة فقد تمكنت شركة توال إنرجيز الفرنسية بالشراكة مع شركة قطر للطاقة من إبرام اتفاق مع العراق بقيمة 27 مليار دولار لمدة 25 عاماً لتطوير صناعة النفط و استثمار الغاز المصاحب لتوليد الكهرباء بالإضافة إلى تطوير قطاع الطاقة المتجددة. و كان لتوتال في هذا الاتفاق حصة الأسد بحصولها على 45% من قيمة الاتفاق في حين كان لشركة قطر للطاقة حصة 25% و العراق 30% .
و يأتي الاستثمار الفرنسي هذا في وقت قلصت فيه شركات أمريكية و أوروبية مثل إكسون موبيل و شل و بي بي من استثماراتها في العراق ما يشير إلى رغبة فرنسية في تعزيز نفوذها في العراق و المنطقة.
و في إطار اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وقع العراق مع فرنسا مذكرة تفاهم لتبادل الخبرات في مجال مكافحة الفساد تتضمن تبادل المعلومات و التدريب و التحري عن الفساد للحد من انتشاره.
و لم يقتصر التقارب الفرنسي العراقي على المستوى الامني و الاقتصادي و حسب و إنما تعداه إلى مجال الثقافة. فقد تم منح العراق منصب إدارة معهد العالم العربي في باريس ، و هي المرة الاولى التي يحصل فيها العراق على هذا المنصب منذ أربعة عقود. كما بذلت السفارة الفرنسية في بغداد جهوداً حثيثة لدعم ترشيح العراق في إشارة واضحة إلى شكل جديد من العلاقة بين البلدين.
و لتطوير العمل المشترك في مجال التعليم و البحوث العلمية وقعت وزارة التعليم و البحث العلمي في العراق اتفاقاً مع الحكومة الفرنسية لتطوير بيئة العمل الأكاديمي في مجالات البيئة والعلوم و الآثار و التراث و اللغة الفرنسية.

صراع المصالح

و تراقب كل من الولايات المتحدة و إيران و تركيا محاولات فرنسا تثبيت موطىء قدم لها في العراق. فواشنطن التي عملت بجد على تأسيس العملية السياسية في العراق ما بعد 2003 ترفض أن تملأ باريس مكانها حال خروج قوات التحالف الدولي منه. كما أنها تنظر إلى الشركات الفرنسية بعين المنافس خصوصاً و أن الرئيس الفرنسي ماكرون كان قد استنكر خلال زيارته إلى واشنطن في العام 2022 الإجراءات الاقتصادية شديدة العدوانية التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في دعم الشركات المحلية واصفاً ذلك بالأمر الخطير الذي يهدد بتفتيت الغرب.
و تشير الأحداث بوضوح إلى وجود خلاف فرنسي أمريكي سواء أكان ذلك في مجال النفوذ العسكري أو في مجال الاقتصاد، ما يجعل العراق مركزاً جديداً لصراع خفي بين الطرفين.
و لن تكون إيران بمنأى عن ذلك. فالعراق هو أحد الأسواق المهمة لشركاتها و هو مجال استراتيجي مهم تستفيد منه إيران في توفير الحماية لها أو تمويل اقتصادها من خلال حجم السوق العراقية.
و لا يبدو أن طهران ستكون مرحبة بالنفوذ الاقتصادي الفرنسي في العراق خصوصاً في مجال الطاقة. فمشروع استثمار الغاز المصاحب الذي تنوي توتال الفرنسية تنفيذه سيساهم في تقليص اعتماد العراق على الغاز المستورد من إيران.
و يعزز ذلك من استقلال العراق في مجال الطاقة بالإضافة إلى ترسيخه رؤية الرئيس ماكرون ، التي أعلنها خلال قمة بغداد الثانية للتعاون و الشراكة في الأردن عام 2022 ، بضرورة خروج العراق من سياسة الإملاءات الخارجية.
تركيا هي الأخرى تراقب بحذر الخطوات الفرنسية لتطوير العلاقات مع العراق حيث تحاول أنقرة أن تكون من أكبر الشركاء التجاريين للسوق العراقية و الدخول في مشاريع البنى التحتية المهمة التي تنوي الحكومة العراقية البدء فيها كطريق التنمية الواصل بين ميناء الفاو في البصرة و الحدود التركية.
و يزداد القلق التركي من فرنسا مع التقارب الكبير بين أربيل و باريس حيث يتمتع الجانبان بعلاقات مميزة قد تفسرها تركيا على أنها تعزيز لنفوذ الكرد في المنطقة. و تطمح تركيا أن تستفيد من الموارد الطبيعية لكردستان من غاز و نفط لتصبح عقدة مهمة للغاز في المنطقة لذا فقد دخلت في صراع سياسي كبير مع فرنسا حول ملف قضية الغاز مع اليونان.
و تخشى تركيا من أن يكون دخول شركات الطاقة الفرنسية إلى قطاع النفط و الغاز في العراق مقدمة لمشاريع أكبر قد تحرم أنقرة من مصالح مهمة لها في السوق العراقية.

الحاجة إلى مزيد من الاستثمارات الفرنسية

و بالنظر إلى حجم التبادل التجاري بين العراق و كل من إيران و تركيا و فرنسا فإن ميزان القوة يصب في مصلحة طهران و أنقرة. فالتبادل التجاري بين العراق و إيران بلغ 20 مليار دولار العام الماضي في حين بلغ التبادل التجاري العراقي التركي اكثر من 15 مليار دولار. أما التبادل التجاري بين العراق و فرنسا فهو لا يتجاوز الملياري دولار ما يشير إلى فرق واضح في العلاقات التجارية بين الطرفين.
لذا سيتعين على فرنسا بذل مجهود مضاعف لزيادة حجم استثماراتها في العراق و تطوير سياسة متوازنة في التعامل مع جميع الاطراف على قاعدة الشراكة و العمل المشترك من دون أن يؤدي ذلك لاستفزاز واشنطن أو طهران و أنقرة.
التعاليق: 0

لن يتم نشر بريدك الالكتروني, الحقول المشار اليها بـ * مطلوبة.