الحرب في غزة تضعف فرص الممر الاقتصادي

تعتبر الحرب على غزة تحدياً كبيراً لإعادة صياغة الممرات الاقتصادية في الشرق الأوسط.
فمشروع الممر الاقتصادي (IMEC) الممتد من الهند إلى أوروبا مروراً بإسرائيل يصطدم بشكل واضح بعامل الأمن الذي يعتبر أساسياً بالنسبة للكثير من المستثمرين الذين قد يحجمون عن الدخول فيه كونه يمثل مخاطرة كبيرة حال توسع دائرة الصراع لتشمل دولاً أخرى في الشرق الأوسط.
و تبلغ الكلفة الأولية لإنجاز هذا المشروع قرابة الـ 20 مليار دولار سيتم إنفاقها لتطوير شبكات السكك الحديدية و عدد من الموانىء في بعض الدول الأوروبية كاليونان و فرنسا و إيطاليا.
و قد تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في إسرائيل بـ 60 بالمائة في الربع الأول من هذا العام 2023 مقارنة بمتوسط نفس الفترة من عامي 2020 و2022 مع اتساع الفجوة مؤخراً بسبب مجريات الأحداث في غزة.
كما أدت الحرب لتوقف صادرات الغاز من حقل تمار الذي يعتبر أحد أكبر حقول الغاز الإسرائيلية حيث يشكل 40% من انناجها السنوي من الغاز الطبيعي.و يعتبر مشروع طريق التنمية الواصل بين دول الخليج العربي و أوروبا مروراً بالعراق و تركيا الأكثر قابلية للتطبيق.
فالعراق دولة نفطية تستطيع إكمال هذا المشروع و توفير التخصيصات المالية اللازمة لإنجازه حيث أن الكلفة الأولية للمشروع هي 17 مليار دولار أي ما يعادل قرابة 11 بالمائة من موازنة البلاد لهذا العام 2023.
بالإضافة لذلك فهناك رغبة تركية كبيرة بإنجاز هذا المشروع بأسرع وقت ممكن و هي رغبة لا تتعارض مع الطموح الإيراني بتعزيز التعاون بين طريق التنمية و ممر (شمال – جنوب) الذي يربط روسيا بالخليج العربي مروراً بإيران.
كما أن توافق المصالح الإيرانية التركية حول هذا المشروع سيكون له نتائج إيجابية في تحقيق الأمن و الاستقرار في المناطق التي يمر بها طريق التنمية ما يقلل من حجم المخاطر التي قد يتعرض لها بالمقارنة مع الحرب الدائرة في إسرائيل.

ممر جديد لنقل الغاز

و لا تنحصر القوة الاقتصادية لطريق التنمية بنقل السلع بين الشرق و الغرب فقط و إنما بوجود طريق موازية للطاقة يتم من خلالها نقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر كل من العراق و تركيا. فقد وقعت قطر اتفاقين مع كل من شركتي شل و توتال إنرجيز لتوريد ما يصل إلى 3.5 مليون طن سنوياً من الغاز الطبيعي المسال لكل منهما بدءاً من العام 2026 و لمدة 27 عاماً.
و تعتزم قطر زيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال من حقلها الشمالي المشترك مع إيران بأكثر من 60 بالمائة ليصل إلى 126 مليون طن سنوياً بحلول 2027 ما قد يدعم إنشاء شبكة من الأنابيب تمتد عبر مياه الخليج شمالاً باتجاه العراق و منها إلى تركيا فأوروبا.
و في حال تم ذلك فإن كلفة و زمن نقل الغاز الطبيعي ستكون أقل ما يعطي مشروع طريق التنمية دعماً أوروبياً أيضاً ، خصوصاً و أن اوروبا ترغب بإيجاد البدائل المناسبة عن الغاز الروسي بأسرع وقت ممكن.
و يتفق ذلك مع أجندة العراق و طموحاته المستقبلية في تصدير الغاز الطبيعي للأسواق العالمية حيث يعمل على تعزيز استثماراته في تطوير حقول الغاز في غرب و جنوب البلاد و الاستفادة من الطاقة النظيفة في توليد الكهرباء ما يحقق له اكتفاءاً ذاتياً محتملاً في غضون الأعوام الثلاثة القادمة.

دور مهم لأربيل

و تكثف تركيا من اتصالاتها الدبلوماسية لدعم طريق التنمية و البدء به في الأشهر الثلاث القادمة ، حيث عقد وزير خارجيتها هاكان فيدان لقاءات حول هذا الموضوع مع نظرائه في العراق و قطر و الإمارات بالإضافة إلى الهند التي لا تمانع في زيادة صادراتها إلى أوروبا سواء أكان ذلك عبر الممر الاقتصادي أو طريق التنمية.
و تخشى تركيا من أن يؤدي الممر الاقتصادي الذي يبتعد عن خارطتها الجغرافية إلى تهميشها ، خصوصاً و أنها ترى في هذه الممرات لاعباً أساسياً في النفوذ السياسي و الاقتصادي الذي سيكون له تأثير على مستقبل المنطقة و العالم.
لكن أنقرة تخشى من عامل مهم قد يكون مصدر قلق لطريق التنمية يتمثل بوجود حزب العمال الكردستاني الذي يتواجد في جنوب غربي البلاد و بعض المناطق في شمال العراق. لذا فقد يستوجب ذلك أن تبدأ تركيا بالتعاون مع أربيل لإيجاد مسار تفاوضي مع قيادات حزب العمال بدلاً من العمليات العسكرية التي قد تعرقل طريق التنمية و تضعف ثقة المستثمرين فيه.
كما تبرز مشكلة أخرى تتمثل في التفاهم بين بغداد و أربيل حول عدد من المسائل المهمة كالمناطق المتنازع عليها و قانون النفط و الغاز حيث يتوقع أن يكون لكل من أنقرة و طهران دور في هذا الإطار لتقريب وجهات النظر بين الجانبين و تحقيق الاستقرار السياسي في العراق.

توافق أمريكي – إيراني

من جانبها لا تعارض واشنطن أياً من هذه المسارات كونها ترغب في أن يزيد العراق من قدراته الانتاجية في مجال الطاقة و أن يتم وصول الغاز لأوروبا للتخلص من الضغط الروسي على أوروبا. و قد يفسر هذا المرونة الكبيرة التي أبدتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع طهران فيما يتعلق بأموالها المجمدة أو مستحقاتها المالية في العراق و كذلك محاولات كلا الطرفين تجنب أي تصعيد للحرب في غزة.
و قد أشار إلى هذا المضمون رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال كلمته في قمة السلام التي عقدت مؤخراً في القاهرة على خلفية التطورات في غزة حيث ألمح لخطورة ما يجري و انعكاساته على إمدادات الطاقة العالمية و أمنها.
و لا ترغب إدارة الرئيس بايدن في ارتفاع أسعار النفط لتأثيرها السلبي على نمو الاقتصاد الأمريكي و ارتفاع التضخم قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما أن تصعيد التوتر في غزة و اتساع نطاق الحرب يهدد مشاريع بايدن الاقتصادية و رؤيته لتعزيز الاستقرار في المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية فيها.
و كذلك هو الحال بالنسبة لطهران التي لا ترغب في الدخول بصراع مسلح يتسبب في استنزافها و تعرضها لمزيد من العزلة. لذا يحاول كلا الطرفين أن يقنع حلفاءه بضرورة التأني و الحكمة إلى أن يتم إيجاد صيغة للتفاهم.

المشاريع المشتركة تخدم السلام في المنطقة

و يبدو من خلال مجريات الأحداث أن صراع الشرق الأوسط لا يمكن أن يحسم عسكرياً و إنما هو بحاجة لمسار سلمي يأخذ بعين الاعتبار مصالح كل الجهات التي تشارك فيه. لذا لا بد من الاهتمام بالمشاريع الاقتصادية التي تشكل نقطة التقاء لكل الفرقاء ما يوحد وجهات النظر فيما بينها.
و هنا يبرز طريق التنمية كأحد أهم ركائز السلام في المنطقة و أكثرها واقعية و قد يكون له أثر إيجابي يستلزم معه أن يتوسع في مساراته ليشمل دولاً أخرى يكون لها دور أعمق في تحقيق التنمية و الإزدهار لشعوب المنطقة و العالم على حد سواء.
التعاليق: 0

لن يتم نشر بريدك الالكتروني, الحقول المشار اليها بـ * مطلوبة.