هل اختفت موازنة العراق لعام 2023 ؟
موازنة ضخمة و تحذيرات دولية
منذ إقرار البرلمان العراقي موازنة البلاد لثلاث سنوات تمتد من 2023 – 2025 و العراقيون ينتظرون إطلاق أموالها. فموازنة هذا العام 2023 ، و التي اعتبرت الأضخم في تاريخ الموازنات العراقية ، بلغت 152.2 مليار دولار بعجز يعادل 48.3 مليار دولار. و اعتمدت الموازنة بنسبة كبيرة على الإيرادات المالية لصادرات النفط محددة سعر 70 دولاراً للبرميل ، لذا فإن الفوائض المالية المتوقعة فيها تتجاوز الـ 17 مليار دولار ما يعني أن العجز المتوقع سيكون بنسبة تصل إلى 20.5% و هو أقل بـ 11% مما كان متوقعاً.
و قد تعرضت هذه الموازنة لتحذيرات كبيرة من قبل صندوق النقد و البنك الدوليين و ذلك لارتفاع فاتورة الإنفاق ما يزيد من عبء التضخم و يهدد الاقتصاد العراقي و مستقبله. فقد ارتفعت فقرة الرواتب في الموازنة من 41 ترليون دينار إلى 62 ترليون دينار بزيادة قدرها 51% .
تداعيات سلبية على القطاع الخاص
اللافت في موازنة هذا العام هو أنه لم يتم إطلاق أموالها باستثناء الرواتب و ذلك على الرغم من أننا في أواخر العام 2023 و نقترب من الإعداد لموازنة 2024 المقرة أصلاً في وقت سابق. و يساهم هذا التأخير بضياع العديد من الفرص التنموية و المشاريع الاقتصادية التي كان سيتم إنجازها أو البدء فيها. كما أن له تداعيات سلبية على القطاع الخاص الذي ينتظر البعض منه سداد مستحقاته أو الفرصة المناسبة لتحريك عجلة الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد على واردات النفط.
مصادر حكومية عراقية أرجعت التأخر في إطلاق موازنة 2023 إلى تأخر المحافظات في تقديم خططها و موازناتها إلا أن مصادر نيابية في البرلمان العراقي تنفي ذلك و ترجع السبب لمخاوف من استغلال تلك الأموال انتخابياً خلال الفترة التي تجري فيها انتخابات مجالس المحافظات. و إذا صح هذا التبرير فإنه يؤشر لتأثير الاحزاب السياسية على الاقتصاد العراقي و تحكمها به.
لكن مجالس المحافظات نفسها تلقي باللوم على الحكومة. فقسم كبير منها يعزو عدم تنفيذ الخطط أو تقديمها لعدم كفاية الأموال اللازمة لإنجاز المشاريع. و بذلك تصبح القضية كالكرة التي يتقاذفها كل من مجلس الوزراء و مجالس المحافظات.
و رغم إطلاق دفعات مالية بسيطة في صندوق الإعمار و استمرار الانفاق من الأموال المخصصة لمشروع الأمن الغذائي إلا أن العديد من المشاريع تشهد توقفاً ملحوظاً أو تلكؤاً بحجة عدم وجود نفقات مالية كافية.
هل يتكرر سيناريو موازنة 2014؟
من جهتها فإن حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني كانت قد أقرت موازنات الاعوام 2023 -2024-2025 بهدف تسريع المشاريع ، لكن ما حدث هو ان النفقات الاستثمارية لم يتم اطلاقها. و يثير ذلك مخاوف من أن تلقى موازنة هذا العام 2023 المصير ذاته الذي آلت إليه موازنة العام 2014 ، و التي لم تقر بسبب خلافات بين الكتل السياسية على بنود وفقرات قانون الموازنة، و سيطرة تنظيم داعش الارهابي على اجزاء واسعة من العراق.
و لم يتم لاحقاً معرفة مصير تلك الأموال خصوصاً و أن الحسابات الختامية ، كما هي عادة معظم الموازنات العراقية، يتأخر إنجازها لسنوات طويلة.
فبالرغم من مرور فترة طويلة على موازنات 2017-2018-2019 إلا أن وزارة المالية أعلنت قبل أيام فقط إنجازها الحسابات الختامية لتلك الفترة الأمر الذي يستوجب إعادة النظر فيها و تدقيقها و مقارنتها مع ما تم إنجازه على أرض الواقع لتفادي أي حالات تلاعب أو فساد تكون قد شهدتها.
و يصعّب ذلك أيضاً من التعرف على الاحتياجات الحقيقية للمحافظات و مشاريعها و قدرة الموازنات على تلبيتها. لذا فقد أصدرت المحكمة الاتحادية قبل أيام حكماً يقضي بإلزام مجلس الوزراء و وزير المالية بتقديم الحسابات الختامية للموازنة الاتحادية إلى البرلمان العراقي في موعدها المقرر.
الدينار ضحية التأخير
و يؤدي التأخر في اطلاق الموازنة إلى تأخر إنجاز المشاريع الصناعية و الزراعية ما يساهم ارتفاع فاتورة الاستيراد. فالانتاج المحلي في العراق يكاد يقتصر على إنتاج النفط ، ما يزيد من مخاطر خروج الدولار لتمويل فواتير الاستيراد التي يكون قسم كبير منها غير حقيقي. و يؤدي ذلك لخروج إيرادات النفط من الدولار إلى خارج الدورة الاقتصادية العراقية و التذبذب في أسعار الصرف.
و يشهد الدينار العراقي تذبذباً واضحاً في سعر الصرف فقد تراجعت قيمته من 1182 في 2020 إلى 1460 دينار لكل دولار في العام 2022 لتستمر بالتراجع في هذا العام حتى وصلت إلى مستويات 1600 دينار لكل دولار، ما يعني أن الدينار فقد أكثر من 35% من قيمته خلال ثلاثة أعوام فقط.
وزارة الخزانة الأمريكية كانت قد نصحت العراق في أوقات سابقة بضرورة تنويع مصادر التجارة الخارجية كون أن العديد من المصارف العراقية التي تعاملت في وقت سابق مع ما يعرف بنافذة بيع العملة للحصول على الدولار لم تلتزم بالمعايير المطلوبة.
كما منعت الخزانة الأمريكية عدداً من المصارف العراقية من التعامل بالدولار بالإضافة إلى تفعيل ما يعرف بمنصة الامتثال التي تراقب المستفيد النهائي من التحويلات و طبيعة السلع المستوردة و ذلك في إطار إجراءات مشددة للرقابة على الدولار.
و تشتبه الولايات المتحدة أن الدولارالذي يخرج من العراق يستخدم في تمويله نشاطات لجماعات موالية لإيران ما يساهم في تهرب طهران من العقوبات المفروضة عليها.
و رغم محاولات البنك المركزي العراقي و حكومة السوداني السيطرة على تذبذب سعر الصرف إلا ان الدينار العراقي ما يزال عرضة للتقلبات الأمر الذي اضعف ثقة الشركات و المواطنين به و أبعدهم عن اقتناءه بعكس النصيحة التي قدمها لهم السوداني بشراء الدينار بدلاً من الدولار.
و تقوم بعض التبريرات في تأخر إطلاق موازنة 2023 على التذبذب في سعر الصرف، لكن هذا التبرير يتنافى مع الأرقام الصادرة عن البنك المركزي العراقي و الذي يبيع يومياً ما معدله 200 مليون دولار مع وجود كتلة نقدية لا تقل عن 116 ترليون دينار.
و رغم ذلك فإن 30% فقط فمن هذه الكتلة النقدية الكبيرة يتداول في الجهاز المصرفي العراقي، في حين يكتنز قرابة 70% من تلك المبالغ لدى بعض التجار و المتنفذين و المواطنين لأغراض و دوافع مختلفة تتراوح بين المتاجرة بالعملة أو الخوف و عدم الثقة بالقطاع المصرفي.
كيف ينعكس ذلك على حياة العراقيين؟
و يساهم إطلاق أموال الموازنة بانتعاش الأسواق العراقية التي تعاني من حالة من الركود الملحوظ مع ارتفاع في معدلات الفقر و البطالة. فبحسب وزارة التخطيط العراقية يصل معدل الفقر في العراق الى 25% ما يرفع أعداد الفقراء إلى عشرة ملايين عراقي. في حين يبحث واحد من كل خمسة شباب عن عمل مع تراجع القدرة الشرائية للمواطن العراقي بما لا يقل عن 30% نتيجة تراجع قيمة الدينار امام الدولار.
و رغم الايرادات المالية الكبيرة لصادرات النفط و إطلاق جولات التراخيص المتعلقة بحقول النفط و الغاز بالاضافة لواردات المنافذ الحدودية إلا أن ذلك لم ينعكس بشكل واضح على الاقتصاد العراقي الذي ما يزال هشاً أمام الصدمات الاقتصادية و الأزمات السياسية الداخلية و الإقليمية.
توقف صادرات كردستان ينعكس سلباً على الموازنة
لقد رسخت الظروف الدولية مؤخراً موقع العراق المتميز في خارطة الطاقة العالمية لذا يتوجب على حكومة السوداني أن تستغل ذلك و أن تعمل على إطلاق أموال الموازنة بما يضمن تحريك عجلة الاقتصاد و تسريع المشاريع مع ضرورة تشديد الرقابة المالية على كل ما يتم صرفه.
و لا يجب إغفال العامل السياسي في معادلة العراق الاقتصادية فالتفاهم بين بغداد و أربيل هو أمر أساسي لتحقيق الاستقرار و جذب المزيد من الشركات المستثمرة ليس في قطاع الطاقة و حسب و إنما في القطاعات الانتاجية الاخرى.
و يشكل موضوع صادرات كردستان النفطية عامل اختبار حقيقي لحكومة السوداني، ليس أمام شركائها الكرد و حسب و إنما أمام الشركات العالمية التي تنظر إلى العراق كفرصة استثمارية تحتاج إلى من يطورها و يوفر الظروف المناسبة لاستغلالها.
فحالة الركود الاقتصادي في أي جزء من العراق تنعكس سلباً على الأداء الاقتصادي لكل المناطق الأخرى. و يبدو ذلك بوضوح في حالة كردستان التي تعتبر منافذها التجارية عصباً مهماً لكل أنحاء العراق لا يقل أهمية عن البصرة جنوبي البلاد.
و قد تسبب الخلاف القائم بين بغداد و أربيل حول نفقات الموازنة السيادية و مستحقات الوزارات بالإضافة إلى عمليات استخراج النفط و عقود شركات النفط الأجنبية العاملة في كردستان بتأخر صرف مستحقات الإقليم البالغة 12.67% من الموازنة الاتحادية. و لتلافي التبعات السلبية لذلك التأخير قدمت حكومة السوداني عدداً من السلف إلى الإقليم لدفع رواتب موظفيه إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتغطية كل النفقات خصوصاً مع توقف صادرات الإقليم النفطية التي لا تقل عن 400 ألف برميل يومياً.
و ينعكس ذلك سلباً على موازنة 2023 و التي تنص في أحد بنودها على احتساب تلك الصادرات كأحد الموارد الأساسية التي تعتمد عليها. فقد تسبب الرفض التركي بعودة استئناف الصادرات النفطية من الإقليم بحجة الأضرار الفنية في الأنبوب الناقل إلى خسارة العراق ما يزيد على سبعة مليارات دولار خلال أقل من ثمانية أشهر فقط.
و ترفض حكومة السوداني الاتهامات التي توجه لها باستخدام الموازنة كوسيلة ضغط على الكرد لتحقيق مكاسب سياسية أو تغييرات في خارطة المناطق المتنازع عليها كمدينة كركوك ، معتبرة أن هذا الأمر يحسم في إطار الدستور العراقي.
و إلى أن يتم إطلاق الموازنة فإن حالة التوتر الحذر بين شركاء العملية السياسية في العراق ستبقى تلقي بظلالها على وضعه الاقتصادي. و يشير ذلك بوضوح إلى حالة اللايقين التي يعيشها الاقتصاد العراقي منذ سنوات و التي سيكون لإطلاق الموازنة الأثر الكبير في تفادي آثارها و تحويلها إلى فرص استثمارية و مشاريع تنموية تعود بالفائدة على جميع العراقيين.
مرتبط
مواضيع مرتبطة