الممر الاقتصادي يرسم خارطة جديدة للطاقة
خارطة جديدة للطاقة
بعد التغير الكبير في خارطة الطاقة العالمية بدأ الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة ترسمها الممرات التجارية. فقد شهدت قمة العشرين التي انعقدت مؤخراً في العاصمة الهندية دلهي الاعلان عن ما يعرف باسم الممر الاقتصادي IMEC الذي يصل كلاً من الهند باوروبا عبر الشرق الأوسط. و شارك في توقيع مذكرة التفاهم كل من الهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والاتحاد الأوروبي وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
و يشمل هذا الممر الاقتصادي خطوط ملاحة بحرية و سككية لنقل السلع و كذلك انابيب لنقل الهيدروجين الاخضر و الكهرباء بالإضافة لكابلات نقل البيانات.
و تتمتع دول الخليج العربي بشبكة واسعة من القطارات و الموانىء المتطورة التي قد تسهل من إنجاز هذا الممر و تحقيق أهدافه.
لكن الامر لا يخلو من بعض التحديات. فعلى الرغم من وجود شبكة من السكك الحديد الجاهزة تصل بين عدد من الموانىء المعنية إلا أن هناك انقطاعات (فجوات) في هذه السكك يتجاوز طولها الـ 4 آلاف كيلومتراً تتطلب استثمارات ضخمة بالإضافة إلى الوقت اللازم لإنشائها.
كما يتطلب الأمر تطوير بعض الموانىء و الطرق الموصلة إليها في كل من اليونان و فرنسا و إيطاليا ما يكلف مبالغ قد تصل إلى قرابة الـ 20 مليار دولار. بالإضافة لذلك فهناك عدد من المعايير التي يجب الاتفاق عليها فيما يخص نوعية القطارات و محركاتها و سعة الحاويات و أبعادها و سهولة نقلها خاصة و أنها ستمر بعدة محطات و موانىء و ستوضع في عدة أرصفة ما يرفع من كلفة النقل.
ميزات قناة السويس التنافسية
و يلقي هذا الخط التجاري الضوء على أهمية الشرق الأوسط المستمرة ليس كمصدر للطاقة و حسب و إنما كنقطة التقاء استراتيجية بين عدد من الممرات التجارية القديمة و الحديثة على حد سواء. فقناة السويس في مصر و التي يمر عبرها جميع التجارة البحرية بين أوروبا و آسيا كانت و ما تزال ذات أهمية قصوى في الاقتصاد العالمي.
و يبلغ حجم التجارة المنقولة بحراً عبر قناة السويس 10% من التجارة العالمية ما يجعلها من أهم الممرات التجارية في العالم منذ إنشائها في العام 1869.
و لم تفقد قناة السويس أهميتها منذ ذلك الحين إلا أن الحديث عن عدد من الممرات التجارية الجديدة طرح عدداً من التساؤلات حول مستقبل القناة. فالممر الاقتصادي الواصل بين أوروبا غرباً و الهند شرقاً دون المرور بقناة السويس و خط شمال-جنوب الواصل بين روسيا و الخليج العربي مروراً بإيران و كذلك طريق التنمية الواصل بين أوروبا و تركيا مع العراق كلها مشاريع ستزيد من حدة التنافس مع قناة السويس. إلا أن عوامل عديد تتعلق بالخبرة الطويلة و المهمة لقناة السويس و عامل الأمان و أعمال التوسعة التي تشهدها يعطيها ميزة تنافسية ستسمر لوقت طويل حتى تثبت الممرات الأخرى فعاليتها و قدرتها.
العقوبات تؤثر في ممر شمال-جنوب
يعتبر هذا الخط التجاري حلقة وصل مهمة لروسيا و اوروبا مع الهند حيث يمتد على طول 7200 كيلومتراً عابراً روسيا و إيران وأذربيجان وآسيا الوسطى. لكن هذا الخط التجاري لن يكون ذا قدرة تنافسية مع الممرات الاخرى ما لم تحل مشكلة ايران مع الغرب فيما يتعلق بالملف النووي و العقوبات و كذلك اذا لم تنته حرب روسيا في اوكرانيا كونها تؤثر في انتقال السلع من السوق الاوروبية إلى الأسواق الآسيوية الأخرى.
و تحاول ايران ان تقترب من الاسواق الخليجية من خلال الربط السككي مع العراق عبر منفذ الشلامجة جنوبي البلاد. و تؤكد مصادر حكومية عراقية أن الوصل السككي مع إيران هو لنقل المسافرين فقط لكن تصريحات لمسؤولين عراقيين سابقين توضح أن نوعية السكك التي تم إنشاؤها يمكن أن تستخدم لنقل السلع في المستقبل. و تطمح إيران لإيصال ممر شمال جنوب للأراضي السعودية و موانئها في محاولة لتجنب أية منافسة لها سواء أكان ذلك عبر طريق التنمية في العراق أو الممر الاقتصادي من الهند لأوروبا.
طريق التنمية يغير سياسات طهران و أنقرة
بالنسبة للعراق فهو لا يمانع في أن يكون معبراً للصادرات الإيرانية إلى السعودية و بالعكس و ذلك بحسب مصادر رسمية. كما نجح العراق في ربط مصالح تركيا الاقتصادية بطريق التنمية الذي يصل بين البصرة و الموانىء التركية. فتركيا ترى في هذا المشروع تعزيزاً لموقعها التجاري عالمياً من خلال ربط موانئها مع موانىء كل من الهند و الامارات و قطر و العراق معاً.
و قد ابدى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عدم رضاه عن الممر الاقتصادي معتبراً أنه يتجاهل تركيا كأحد المحطات المهمة في التجارة العالمية بين الشرق و الغرب.
و يبدو أن الجانب التركي استوعب ذلك سريعاً حيث عبر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن أمله بالبدء بتنفيذ طريق التنمية مع العراق في غضون الأشهر القليلة القادمة.
لكن تركيا تواجه عدداً من التحديات التي قد تهدد طموحاتها التجارية فهناك مشكلة حزب العمال الكردستاني الذي قد يهدد مصالحها الاقتصادية في جنوب شرق تركيا و كذلك الخلاف مع الادارة الامريكية حول ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في سوريا بالإضافة لتقاربها مع روسيا.
و قد يجبر ذلك أنقرة على إعادة النظر في طريقة تعاملها مع بعض الملفات الحساسة خاصة ما يتعلق بملف المياه مع العراق و ملف تصدير نفط إقليم كردستان عبر أراضيها. و لا تغفل الحكومة التركية الدور البارز الذي قد تلعبه حكومة كردستان في حماية طريق التنمية من أية هجمات قد تعرقل عمله في المستقبل.
أما إيران فهي ترفض فكرة الممر الاقتصادي و طريق التنمية على حد سواء، خصوصاً و أنهما يهددان خط شمال- جنوب الذي تعول عليه طهران لتكون حلقة وصل بين أوروبا و روسيا من جهة و الهند و باقي دول آسيا من جهة أخرى.
و قد يفسر هذا جزءاً من الازمات التي عانت منها حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خاصة ما يتعلق بأزمة كركوك و التي كادت تؤدي لانسحاب الكرد من الحكومة او الأزمة المفتعلة مع الكويت بخصوص خور عبد الله و التي تؤدي لتوتير الأوضاع في جنوب العراق تحديداً.
فاستقرار منافذ العراق التجارية و استتباب الامن و الاتفاق بين بغداد و اربيل يسرع من انجاز طريق التنمية في وقت تطمح فيه طهران ان تتوسع في طريق شمال-جنوب لتصل به إلى الخليج العربي أيضاً.
استراتيجية إيران الجديدة في المنطقة
و للتغلب على التبعات السلبية التي قد تنعكس عليها من الممر الاقتصادي الذي تم الإعلان عنه مؤخراً تحاول إيران أن تغير من استراتيجيتها في التعامل مع الممرات التجارية الأخرى. فبدلاً من معارضة خط التنمية بين العراق و تركيا تعمل إيران على الدخول فيه عن طريق الربط السككي مع العراق و بذلك يتصل خط شمال- جنوب مع محافظة البصرة جنوب العراق و منها إلى الخليج العربي. و في حال تمكنت طهران من ربط خطوطها السككية مع البصرة فسيكون من السهل لاحقاً ربطها مع السعودية و الوصول بشكل غير مباشر لشبكة خطوط الممر الاقتصادي الجديد.
و لا يبدو ذلك مستبعداً ، خاصة و أن ذلك ينسجم أيضاً مع رغبة موسكو في أن يكون لها موطىء قدم تجارية مع الأسواق الخليجية و الآسيوية. ففي حزيران يونيو الماضي انطلق قطار روسي يحمل حاويات تجارية إلى السعودية عبر تركمانستان و ميناء بندر عباس في ايران و ذلك في محاولة روسية لتعزيز خطوطها التجارية مع الشرق الاوسط.
و تعتزم روسيا زيادة التبادل التجاري مع السعودية من 1.6 مليار دولار الى 5 مليار دولار خلال السنوات القليلة القادمة ما يشير الى رغبة روسية في الوصول الى اسواق الخليج العربي مستقبلاً.
قلق روسي من إيجاد أوروبا بدائل للطاقة
من جانبه شكك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالجدوى الاقتصادية للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا معتبراً أنه مكمل لممر شمال-جنوب.
و تحاول موسكو أن تخفي قلقها من الممر الاقتصادي الذي وصفه آموس هوكستين كبير مستشاري الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه سيغير من قواعد اللعبة في المنطقة. فهذا الخط التجاري سيكون احد الخيارات المهمة التي ستعتمدها اوروبا كبديل عن الغاز الروسي في المستقبل، حيث تساهم انابيب الهيدروجين الاخضر التي يشتمل عليها الممر بتوفير أكثر من 20% من حاجة أوروبا من الهيدروجين ما يخفف من الضغط الروسي على الاقتصاد الأوروبي.
السعودية لاعب مؤثر في الاقتصاد العالمي
كما تعزز هذه الخطوط التجارية من دور الخليج العربي و السعودية تحديداً كاحد اهم اللاعبين المؤثرين في الاقتصاد العالمي كونها تضع هذه الدول في قلب المعادلة التجارية العالمية و تعزز من مكانتها في أسواق الطاقة.
و يدعم هذا النوع من المشاريع التجارية رؤية السعودية 2030 المعنية بالتنوع الاقتصادي و تحفيز قطاعات جديدة كالنقل و الصناعة بالاضافة للتحول نحو الاقتصاد الاخضر.
و تعتزم السعودية إنشاء أكبر مصنع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في العالم باستثمار إجمالي قدره 8.4 مليار دولار حيث سيتم توليد 4 غيغاواط من الطاقة الشمسية و الرياح تستخدم في انتاج 600 طن من الهيدروجين الاخضر يومياً في غضون الاعوام الثلاثة المقبلة.
كما تعتزم المملكة إنتاج وتصدير ما يقارب من 4 ملايين طن من الهيدروجين بحلول 2030 سيكون الاتحاد الاوروبي و اليابان ابرز مستورديها. و قد بدأت العديد من الموانىء الاوروبية مثل نوتردام و امستردام في هولندا و هامبورغ في ألمانيا بالاستعداد لاستقبال شحنات الهيدروجين ما يرسم ملامح جديدة لشكل العلاقات الدبلوماسية و الاقتصادية مع الشرق الاوسط.
مرتبط
مواضيع مرتبطة