هل يؤثر التوتر في البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي؟
البحر الأحمر في دائرة النار
منذ اندلاع الحرب في غزة و الأحداث تتصاعد لتوحي بتوسع دائرة الصراع ليشمل مناطق أوسع في المنطقة. فالحدود اللبنانية تشهد يومياً حدثاُ عسكرياً واحداً على الأقل أما القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا و العراق فشهدت ضربات صاروخية و هجمات بالمسيرات تجاوز عددها الستين.
و قد وصل مدى هذه الحرب أيضاً إلى اليمن حيث وجه ما يعرف بـ “الحوثيين” ضربات بالمسيرات استهدفت جنوب إسرائيل و قاموا باعتراض عدد من السفن المتوجهة إلى الموانى الإسرائيلية مهددين بالاستمرار في ذلك ما لم يعلن وقف إطلاق النار و فك الحصار عن غزة.
و قد شهد مضيق باب المندب خلال الفترة الممتدة من منتصف نوفمبر الماضي إلى منتصف ديسمبر الحالي قرابة 20 هجوماً بالمسيرات أو اعتراضاً لسفن. نتيجة لذلك أوقفت بعض كبريات شركات الشحن البحري كشركة MSC و ميرسك رحلاتها عبر البحر الأحمر و حولتها عن طريق رأس الرجاء الصالح. و تشغل كل من MSC و ميرسك قرابة 34% من اسطول سفن الحاويات العالمي ما يعني تغيراً في أحد أهم خطوط تجارة الحاويات الدولية.
و يعتبر مضيق باب المندب المدخل الرئيس لجنوب البحر الأحمر حيث يمر من خلاله 12% من التجارة الدولية و 30% من تجارة الحاويات العالمية.
و ينعكس التوتر في مضيق باب المندب على حجم الملاحة عبر قناة السويس التي تشكل المدخل الشمالي للتجارة البحرية عبر البحر الأحمر. و قد أشارت هيئة قناة السويس إلى تحول 55 سفينة للعبور عبر طريق رأس الرجاء الصالح خلال الفترة الممتدة من 19 تشرين الثاني / نوفمبر لغاية 17 كانون الاول / ديسمبر.
و رغم أن التهديد لذي وجهه الحوثيون هو للسفن المرتبطة بإسرائيل و أن نسبة تلك السفن بلغت 2.6% من السفن التي عبرت قناة السويس خلال تلك الفترة إلا أنه ما يزال أمراً مقلقاً للعديد من شركات الشحن البحري التي قد ترفض المخاطرة بالعبور في طريق محفوفة بالمخاطر.
و قد أدى ذلك إلى زيادة تكاليف التأمين على السفن البحرية بنسبة 100% أما السفن المتجهة لإسرائيل فقد ارتفعت كلف تأمينها بنسبة 250% في حين ترفض بعض شركات التامين تغطيتها.
كما ارتفعت تكاليف الشحن بالنسبة لبعض السفن فالمسافة التي كانت تقطعها من آسيا إلى أوروبا في 19 يوماً ازدادت لتصل إلى 31 يوماً ما يعني تأخر وصول بعض السلع و زيادة في أسعارها. و قد يؤدي هذا الأمر لخسارة العديد من شركات التجارة الإلكترونية التي قد يلغي بعض زبائنها طلباتهم أو يحملونها تكاليف التأخير.
الأثر على أسعار النفط
بالإضافة لذلك فإن ارتفاع حدة التوتر في البحر الأحمر قد تعطل قرابة 10% من تجارة النفط إذا ما احتدم الصراع في مضيق باب المندب. و رغم أن أسعار النفط لم ترتفع بدرجات كبيرة إلا أنها قفزت بمعدل 1.6% ليصل برنت إلى مستويات الـ 79 دولاراً للبرميل.
و قد يكون لتأخير وصول شحنات النفط في أوقاتها المعتادة أثراً مباشراً على العقود الفورية بشكل أكبر من عقود النفط الآجلة.
و بالنظر لحالة الاقتصاد العالمي الذي ما يزال زخم النمو فيه متباطئاً فإن الطلب على النفط لن يكون بشكل ملحوظ قبل نهاية الربع الأول من العام القادم حيث تتوقع منظمة أوبك نمو الطلب العالمي على النفط بمقدار 2.2 مليون برميل يومياً ، إلى 104.4 ملايين برميل يوميا في 2024.
إلا أن بعض التغيرات في سوق النفط قد تبقي الأسعار منخفضة لبعض الوقت خلال الأشهر الأربع القادمة حيث تستعد الولايات المتحدة الامريكية لزيادة انتاجها النفطي من حوض بيرميان بعد ان أعلنت عن مستويات قياسية بلغت 13.3 مليون برميل يومياً خلال الأسبوع الثالث من ديسمبر الحالي.
لكن مع استمرار اتفاق أوبك+ بخفض الانتاج حتى نهاية الربع الأول من العام القادم فإن أي توتر في الممرات التجارية للنفط سيرفع من أسعاره و سيزيد من عبء التضخم على الدول.
و قد بدأت ملامح هذا التوتر واضحة على قرارات بعض الشركات كشركة النفط العملاقة “بريتيش بتروليوم” التي قررت إيقاف جميع شحنات النفط عبر البحر الأحمر بسبب “تدهور الوضع الأمني” في المنطقة.
كما أعادت شركة “إكوينور” النرويجية توجيه سفنها ما يعني أن شركات النفط الأخرى قد تتخذ قرارات مشابهة تؤدي إلى تأخرشحنات الوقود المصدرة لأوروبا و ارتفاعاً محتملاً في أسعارها خصوصاً و أن قرابة 22% من النفط المكرر المصدر إلى أوروبا يمر عبر البحر الأحمر.
هل إمدادات الغاز المسال في خطر؟
يعتبر باب المندب طريقاً رئيسياً لشحنات الغاز المسال حيث يمر من خلاله نصف الكميات التي يتم تصديرها سواء أكان ذلك من قطر باتجاه أوروبا أو من روسيا و الولايات المتحدة باتجاه عملائهما في آسيا.
لذا فإن أسعار الغاز الطبيعي قفزت بمعدل 7.9% بمجرد امتناع عدد من شركات الطاقة عن السير عبر البحر الأحمر لتعود لاحقاً للتراجع لمستوى 1.2% في حالة من الترقب الحذر من قبل المستثمرين.
و رغم تأثر انتاج الغاز الطبيعي في إسرائيل بالحرب على غزة حيث ادى ذلك لاغلاق منصة حقل تمار و استخدام معظم الكميات المنتجة محلياً ، إلا أن ذلك لم يعطل إمدادات الغاز العالمية أو يقلل من المعروض. فالغاز المسال المصدر من الولايات المتحدة و قطر يشكل جزءاً كبيراً من السوق العالمية ما يمنع أية مخاوف تدفع بالاسعار للارتفاع.
إلا أن حساسية موضوع الغاز الطبيعي خصوصاً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية و امتناع الدول الأوروبية عن شراء الغاز الروسي تشكل هاجساً مقلقاً. فرغم امتلاء مخزونات الغاز في الاتحاد الأوروبي بنسبة تفوق الـ 90% إلا أنها تحتاج لتوفير الكميات التي تغطي شتاء العام 2025.
و قد يفسر هذا الأمر نشر ما يسمى بتحالف حارس الازدهار، والذي يتكون من أصول عسكرية من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وهولندا والنرويج وسيشيل والدنمارك واليونان والبحرين في البحر الأحمر، بهدف في تأمين إمدادات الطاقة الأولية وحماية سلاسل التوريد العالمية من ناحية أخرى.
إلا أن إمدادات الغاز الطبيعي المسال ما تزال في مأمن من أية انقطاعات محتملة فالطرق التي ترسمها خارطة الطاقة العالمية تكيفت مع هذا النوع من المخاطر. فالغاز المسال المصدر من الولايات المتحدة يؤمن جزءاً مهماً من حاجة السوق الأوروبية كما تحصل الدول الآسيوية على ما تحتاجه من الغاز المسال من قطر و استراليا و الدول المجاورة الأخرى.
و لكن يبرز عنصر السعر كأحد العوامل التي قد تغير من تلك الطرق. فارتفاع الطلب في السوق الآسيوية سيعيد توجيه الكميات من الولايات المتحدة إلى آسيا بدلاً من أوروبا و حينها سيتوجب تأمين تلك الشحنات مع يرفع من كلفتها و يزيد من الأثر السلبي على أداء الاقتصاد العالمي.
البحث عن طرق بديلة
و يبدو أن سيناريو إغلاق باب المندب سيكون صعباً جداً على الاقتصاد العالمي فحجم السلع المستوردة من آسيا إلى أوروبا و شمال أفريقيا عبر البحر الأحمر تقدر بـ 15%. كما أن اتخاذ طريق رأس الرجاء الصالح سيؤخر إمدادات الغاز القطري على سبيل المثال لأوروبا بمقدار 22 يوماً ذهاباً و أياباً.
لذا فإن البحث عن طرق تجارة بديلة تكون أقصر و أقل خطورة أصبح أمراً ضرورياً لضمان تدفق السلع بسهولة و مرونة و تجنيب الاقتصاد العالمي مزيداً من الكوارث.
و هنا يبرز دور العراق كحلقة وصل مهمة بين الشرق و الغرب. فطريق التنمية الذي يعتزم العراق إنشاءه و الذي يصل بين البصرة على الخليج العربي جنوباً إلى الحدود التركية مروراً بإقليم كردستان شمالاً سيكون أحد الخيارات المطروحة.
فبالإضافة للخط التجاري لنقل السلع، يضم الطريق خطوطاً للطاقة ستجعل من العراق عنصراً مهماً لإمداد الأسواق الأوروبية بالنفط و الغاز على حد سواء.
و إذا كانت صادرات العراق النفطية إلى أوروبا عبرالبحر الاحمر قد ارتفعت هذا العام كجزء من البدائل عن النفط الروسي بمعدل 114 ألف برميل يومياً مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي إلا أن هذه الكميات مرجحة للارتفاع في الاشهر القادمة.
و ما تزال صادرات العراق من نفط كردستان إلى الموانىء التركية معطلة بسبب قرار محكمة التجارة في باريس و الذي يقضي بتغريم تركيا 1.5 مليار دولار جراء تصدير نفط كردستان دون موافقة بغداد. إلا أن تسارع التوتر في باب المندب قد يسرع من اتفاق كل من بغداد و أربيل لإقرار قانون للنفط و الغاز و عودة التصدير عبر الموانىء التركية.
و كذلك هو الحال بالنسبة للغاز الطبيعي حيث يتوقع أن يصدر العراق 28 مليون متر مكعب يومياً نهاية عام 2027. و قد يكون من الضرورة بمكان التفكير بجدية في إنشاء شبكة من أنابيب الغاز الممتدة عبر إقليم كردستان إلى أوروبا ما يوفر إمدادات أكثر مرونة و أقل خطورة.
و في هذا الإطار تأتي أهمية الخطط الموضوعة لإنشاء خط غاز قطري تركي عبر العراق بكلفة 20 مليار دولار و سعة 31.5 مليار متر مكعب سنوياً كأحد أهم الخيارات المطروحة لإيصال الغاز للاتحاد الاوروبي. و مع زيادة الاستثمارات في حقول الغاز العراقية فإن هذه الكميات ستكون أكبر و سيكون للعراق دور مهم في تصدير الغاز للأسواق العالمية خصوصاً و أنه يمتلك احتياطيات ضخمة تصل إلى 133 ترليون قدم مكعب.
أما طرق إمدادات الطاقة الأخرى فسيكون لدول شمال أفريقيا دور مهم في ذلك. فالجزائر التي تعتزم استثمار 45 مليار دولار في حقول النفط و الغاز لغاية العام 2027 ستكون قادرة على زيادة انتاجها من الغاز بمقدار 4 مليار متر مكعب ما يزيد من حجم صادراتها إلى السوق الأوروبية لما يزيد عن 50 مليار متر مكعب سنوياً.
و لا يمكن الحديث عن إمكانية تنفيذ الطرق البديلة دون الحديث عن توفير البيئة السياسية و الاقتصادية المناسبة لتنفيذها. فغياب قانون النفط و الغاز في العراق و التوترات السياسية في أفريقيا كلها تشكل عوامل مقلقة لمستقبل هذه الخيارات.
كما أن الدور الفاعل لقناة السويس باعتبارها أحد أهم المنافذ البحرية في التجارة الدولية لن يتوقف إلا أن تواجد القطع العسكرية في البحر الأحمر و استمرار الصراع في غزة سيشكل عاملاً مقلقاً للتجارة الدولية و البحرية على وجه الخصوص رغم أن بعض الشركات طالبت به لضمان مستقبل الملاحة عبر باب المندب.
ارتفاع أسعار المعادن
و يعبر البحر الأحمر العديد من السفن المحملة بالمعادن كالفولاذ الذي يصدر من كوريا الجنوبية إلى تركيا بالإضافة للفوسفات الذي يصدر من مصر إلى كل من الصين و الهند.
و قد شهدت اسعار المعادن كالنحاس و الألمنيوم و النيكل و غيرها مؤخراً ارتفاعاً ملحوظاً بفعل مخاوف من تعطل الإمدادات بسبب قيود الشحن في البحر الأحمر و ذلك رغم الدوريات العسكرية المشتركة للبحرية الأمريكية و الدول الأخرى المشاركة معها.
و تعتمد الصين بشكل كبير على ما تستورده من نحاس في اقتصادها حيث تبلغ وادرات الصين من كاثود النحاس من أوروبا 20 ألف طن متري شهرياً ينقل 45% منها عبر البحر الأحمر و الباقي يتم عن طريق الطرق البرية عبر روسيا.
و قد يؤدي تعطيل العديد من الشحنات مع ارتفاع الطلب في الصين إلى تراجع ملحوظ في المخزون خصوصاً على في الأشهر الثلاثة القادمة. إلا أن هذا الأثر يكون محدوداً مع وجود الطرق البديلة التي ستكون أعلى كلفة من حيث النقل و التأمين و الوقت اللازم لوصول الشحنات.
تنقل الشركات المتضررة من التوتر في البحر الأحمر أكثر من 50% من سوق الحاويات العالمية ما يساهم في ارتفاع تكاليف النقل التجاري و تأخر وصول الوقود و السلع الضرورية للصناعة و بعض السلع الغذائية خصوصاً في منطقة اليورو.
ويخشى المستثمرون أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط ما يرفع من مستويات التضخم و ينعكس سلباً على ثقة المستهلكين و مؤشر مديري المشتريات.
و مع تراجع أسهم عدد من كبرى شركات النفط كشركتي شل وبي بي بالإضافة شركة الشحن العملاقة ميرسك بعد تعليقها الشحن عبر البحر الأحمر تراجعت معنويات المستثمرين في أسواق المال و تجددت المخاوف من عودة الضغوط التضخمية على الاقتصاد العالمي أو تعطل سلاسل التوريد العالمية التي ما لبثت ان تعافت من الآثار السلبية لجائحة كورونا.
الحل العسكري أم السياسي؟
إن أهمية البحر الأحمر كأحد الممرات التجارية تستوجب استمرارية تدفق السلع و البضائع بحرية كون أن هذا الطريق هو أحد سلاسل التوريد الحساسة ، إلا أن استمرار التوتر في الشرق الأوسط و الحرب على غزة يشكل عاملاً مقلقاً لمجمل الاقتصاد العالمي.
و إذا كان الوضع الحالي لهذا الاقتصاد غير متأثر بشكل كبير حالياً ، فالأمر يعزا إلى تراجع زخم النمو و عدم الطلب الكبير بسبب ارتفاع التضخم في العديد من الاقتصادات العالمية.
بالإضافة إلى ذلك فإن تكيف سلاسل التوريد عقب جائحة كورونا يجعل الوضع الحالي في البحر الأحمر حذراً إلا أنه ليس بالأمر الخطير. فالملاحة عبر هذا الطريق ما تزال مستمرة و لو أنها أثرت في كبرى شركات الشحن البحري، لكنها رفعت من التكاليف و أجور التأمين و الوقود و زادت من أوقات العديد من الشحنات البحرية.
و رغم أن حماية هذا الممر التجاري عن طريق تشكيل تحالف عسكري بحري من الولايات المتحدة و عدد من الدول الحليفة لها سيساعد في طمأنة المخاوف لدى العديد من التجار و المستثمرين حول العالم إلا أنه يخشى من أن يحول المياه التجارية للبحر الأحمر إلى مياه مليئة بالقطع العسكرية التي قد تحول أي اعتداء على إحدى السفن إلى معركة حقيقية.
لذا لا بد من أن يتم ممارسة الضغط باتجاه معالجة أساس المشكلة و وقف العمليات العسكرية في غزة مع احترام قرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن. بدون ذلك فإن هذا الصراع قد يكبر و يتسع و يكون له نتائج كارثية على المنطقة و العالم على حد سواء.
مرتبط
مواضيع مرتبطة